کد مطلب:370262 دوشنبه 21 خرداد 1397 آمار بازدید:714

الفصل الثالث أنا فقأت عین الفتنة












الصفحة 362












الصفحة 363


مما سبق:


قلنا فیما سبق: إن «الخوارج» كانوا یطمحون إلى تسجیل نصر حاسم على مخالفیهم، حتى أمیر المؤمنین (علیه السلام)، حیث قد زین لهم الشیطان، وأنفسهم الأمّارة بالسوء: على أنهم ظاهرون.. أو على الأقل كانوا یطمعون بالحصول على بعض المكاسب الدنیویة، التی لونوها بلون الدین، وصبغوها بصبغته..


وبإلقاء نظرة سریعة على الظروف وسیر الأحداث آنذاك یتضح بشكل قاطع: كم كان أمیر المؤمنین (علیه السلام) مظلوماً، ومفترىً ومتجنّى علیه آنئذ، ولكنه تقبل الحدث بمسؤولیة، وعالجه معالجة قاطعة، وحاسمة، یتجلّى فیها الحزم والثبات والحكمة.


ثم إنهم بعد أن أفسدوا فی الأرض، وقتلوا الأبریاء، كان لابد لأمیر المؤمنین، صلوات الله وسلامه علیه، وهو الرجل الفذ الذی لم یكن لیساوم ولا لیهادن أحداً على حساب دینه ومبدئه من أن یقف منهم ذلك












الصفحة 364


الموقف القوی والحازم والحاسم، بعد أن یئس من رجوعهم إلى الصواب عن طریق الحجاج والمنطق..


فكانت موقعة النهروان، التی لم یفلت منهم فیها إلا اقل من عشرة. ولم یستشهد من المسلمین إلا اقل من عشرة، كما اخبر (علیه السلام) به.


ثم كانت بعض الشراذم تخرج علیه الفینة بعد الفینة، فكان صلوات الله علیه یقضی علیها ویسحقها بسرعة الواحدة تلو الأخرى، وینزل بهم الضربات القاصمة التی لا فلاح بعدها، ولم یكن لیفسح لهم المجال لیمكنوا لأنفسهم ما دام أنهم یفسدون فی الأرض، ویقتلون الأبریاء ویخیفون ویقطعون السبیل.


وكانت حركاتهم تلك تتسم بالارتجال، والسرعة، والعنف، وذلك لما یجدونه فی نفوسهم حسبما أشار إلیه الإمام الصادق (علیه السلام).. ولما ذكرناه من طبیعة تركیبتهم عموماً، ولغیر ذلك من أمور.


ونرید فی هذا الفصل إلقاء نظرة على ما روی عنه (علیه السلام) من أنه هو الذی فقأ عین الفتنة، وماذا یعنی (علیه السلام) بقوله هذا..


فنقول..


أنا فقأت عین الفتنة:


عن أمیر المؤمنین (علیه السلام)، أنه قال: «أنا فقأت عین الفتنة، ولم یكن لیجرؤ علیها أحد غیری، بعد أن ماج غیهبها، واشتد كلبها» أضاف فی روایة أخرى لهذا النص قوله (علیه السلام): «لو لم أكن فیكم ما قوتل الناكثون، ولا القاسطون، ولا المارقون».


أو «ما قوتل فلان، وفلان».












الصفحة 365


أو «ما قوتل أصحاب الجمل والنهروان»(1).


وقد قال عدی بن حاتم: «لو غیر علی دعانا إلى قتال أهل الصلاة ما أجبناه، فانه ما وقع بأمر قط إلا ومعه من الله برهان، وفی یده من الله سبب»(2).


نعم، لقد كانت حرب هؤلاء جمیعاً مخاطرة كبرى، لا یمكن الإقدام علیها لأی كان من الناس إلا لأمیر المؤمنین (علیه الصلاة والسلام). ولأجل ذلك نجد أبا بكر لم یقدم على قتال أهل القبلة إلا بعد أن ادعى أنهم قد ارتدوا عن الإسلام.


والسر فی ذلك یرجع إلى الأمور التالیة:


1 ـ القوة السیاسیة للناكثین:


لقد كان على رأس الناكثین طلحة والزبیر، وهما من أهل السابقة فی الإسلام.


ثم أم المؤمنین عائشة، وهی المرأة الشجاعة، والذكیة جداً، وزوجة رسول الله (صلى الله علیه وآله) وسلم، وبنت أبی بكر. وقد وضعت الأحادیث فی فضلها. وكانت تحظى برعایة وعنایة خاصة ـ لم تكن


____________



(1) راجع: نهج البلاغة، بشرح عبده الخطبة رقم 89، وتاریخ الیعقوبی ج2 ص 193 والغارات للثقفی ج1 ص 6 و7 و16 وحلیة الأولیاء ج4 ص 186 وج1 ص68 وكنز العمال ج11 ص 285، ورمز له بـ [ش، حل، والدورقی] والبحار ط قدیم ج8 ص 556 وط جدید ج32 ص 316 وكشف الغمة ج1 ص 244 والبدایة والنهایة ج7 ص 289 ـ 294 وترجمة الامام علی بن أبی طالب من تاریخ دمشق ج3 ص 175 وكفایة الطالب ص 180 والخصائص للنسائی ص 146 وفی شرح النهج للمعتزلی ج7 ص 57: إن «هذه الخطبة ذكرها جماعة من أصحاب السیر، وهی متداولة، منقولة، مستفیضة».













الصفحة 366


لأحد سواها ـ من قبل عمر بن الخطاب، الذی كان یتمیز بعظمة خاصة فی نفوس العرب، وكان رأیه وفعله كالشرع المتبع، وكان محبوباً لدى قریش وسائر العرب، لأمور لا مجال لذكرها الآن، حیث كان عمر یمیزها فی العطاء ویعطیها أكثر من جمیع نساء النبی (صلى الله علیه وآله)، بحجة أنها حبیبة الرسول، وابنة أبی بكر(1).


2 ـ القاسطون وقوتهم المتمیزة:


وأما القاسطون.. فكان یتزعمهم معاویة بن أبی سفیان، الذی جعله عمر على عرش الشام. وكان یعامله معاملة متمیزة بالمقارنة مع معاملته لكل من عداه من عماله. وقد استمر على عمله ذاك فی عهد عثمان أیضاً، مع كل ما كان یحظى به من حفاوة وشأن لدى عثمان.


وقد طال مقامه فی الشام إلى عشرات السنین، حتى لقد تربى أهل الشام على نهجه، وانسجموا مع اتجاهاته، وأصبحت البلاد التی یحكمها سفیانیة الفكر والمنحى، بكل ما لهذه الكلمة من معنى. ولم یعرف أهلها إلا الإسلام الأموی السفیانی، إسلام الأطماع والمآثم، والموبقات والجرائم. الذی كان یتخذ الدین وسیلة إلى الحصول على المزید من المكاسب، وأداة لتحقیق الأهداف والمآرب.


وقد أعطانا أمیر المؤمنین، وصفاً دقیقاً لحالتهم تلك، حینما قال لأصحابه: «.. قاتلوا الخاطئین، القاتلین لأولیاء الله، المحرفین لدین الله، الذین لیسوا بقراء الكتاب، ولا فقهاء فی الدین، ولا علماء بالتأویل، ولا لهذا


____________



(1) راجع: أنساب الأشراف ج1 ص 442 وتاریخ الأمم والملوك ج2 ص 614.













الصفحة 367


الأمر بأهل فی دین، ولا سابقة فی الإسلام. والله، لو ولّّّوا علیكم لعملوا فیكم بعمل كسرى وقیصر»(1).


ملاحظة هامة:


وقبل أن نواصل الحدیث عن هذا الموضوع نسجل ملاحظة هامة على الفقرة الأخیرة فی كلامه (علیه السلام)، فانه اعتبر أن سیرة كسرى وقیصر كانت سیرة غیر إنسانیة. وأنها مرفوضة جملة وتفصیلاً..


وهذا الأمر یجعلنا نقف موقف المتأمل فی قول الخلیفة عمر بن الخطاب عن معاویة: كلما دخل إلى الشام ونظر إلیه: هذا كسرى العرب(2).


وكذا فی قول عمر نفسه أیضاً: «إنی تعلمت العدل من كسرى!!». وذكر خشیته وسیرته!! (3).


فان تعلمه للعدل من كسرى، مع وجود نبی الإسلام، وتعالیم القرآن، وذكره لخشیة كسرى وسیرته، لهو أمر یثیر الدهشة حقاً!! وأیة خشیة كانت لدى كسرى؟ وأیة سیرة أعجبته من سیره؟ والنص المتقدم یدل دلالة واضحة على أن سیرته لم تكن سیرة الحق والتقى. ولأجل


____________



(1) الإمامة والسیاسة ج1 ص 144 وتاریخ الأمم والملوك ج4 ص 57.


(2) الاستیعاب بهامش الإصابة ج3 ص 396 و397 وراجع: الإصابة ج3 ص 434 وأسد الغابة ج4 ص 386 والغدیر ج10 ص 226 عنهم ودلائل الصدق ج3 قسم 1 ص 212.


(3) أحسن التقاسیم ص 18.













الصفحة 368


ذلك یخوِّف أمیر المؤمنین (علیه السلام) الناس من «الخوارج» بأنهم لو ولّوا علیهم لعملوا فیهم بعمل كسرى وقیصر.


والعجیب انه یظهر إعجابه بمعاویة ویصفه بكسرى العرب. فشتان ما بین هذه المواقف منه، وبین واقع كسرى المزری والمهین، والبعید كل البعد عن الشأن الإنسانی، كما أشار إلیه أمیر المؤمنین (علیه السلام)..


عودة إلى الحدیث السابق:


وبعد.. فإن هناك الشبهات والأضالیل، والمغالطات، التی كان یتوسل بها معاویة، فیما یرتبط بمقتل الخلیفة عثمان، وبالنسبة لموقف أمیر المؤمنین (علیه السلام) من مقتله، ومن خلافته ومن خلافة الذین سبقوه بصورة عامة.


مع أن أمیر المؤمنین كان قد بین له: «أن الذین باشروا قتل عثمان، قتلوا یوم قتلوه. وأما الآخرون من الثائرین، فلا یستحقون القتل، فقد تأولوا علیه القرآن، ووقعت الفرقة، ولا یجب علیهم القود»(1).


كما أن من الواضح: أن معاویة لم یكن ولی دم عثمان.


وحتى لو كان ولیه، فقد كان علیه أن یرفع أمره إلى الخلیفة الشرعی، ویحاكمهم إلیه..


ومهما یكن من أمر، فإن شبهات معاویة وأضالیله المختلفة قد أثرت أثرها، لیس بالنسبة لأهل الشام فقط، بل بالنسبة لغیرهم أیضاً، حتى لیذكرون أن الصحابی المعروف عبد الله بن مسعود فی أربع مئة من


____________



(1) الخوارج فی العصر الأموی ص 66 عن شرح النهج للمعتزلی ج4 ص 16.













الصفحة 369


أصحابه، قد اعتذروا لعلی (علیه السلام)، وأخبروه بأن الشك یساورهم فی أمر هذا القتال، فاعتزلوه (1).


3 ـ قوة المارقین:


أما المارقون فكانوا معروفین بكثرة العبادة، وقراءة القرآن، وقد أرسل مروان بن الحكم وهو والی المدینة إلى الإمام الحسن (علیه السلام) یقول له: «أبوك الذی فرق الجماعة، وقتل أمیر المؤمنین عثمان، وأباد العلماء والزهاد، یعنی الخوارج..»(2).


وهذا الزهد الظاهری، وهذه العبادة كان هو الأسلوب والأمر الذی مكنهم من أن یجتذبوا السذج والبسطاء من الناس إلیهم وجعل اكتشاف حقیقة أمرهم أمراً بالغ الصعوبة، فلم یكن الإقدام على حربهم بالأمر المستساغ ولا المیسور.. وهم فی الظاهر: المسلمون، الزاهدون، العابدون.


وقد روى أحمد: أنه بعد قتل أهل النهروان: كأن الناس وجدوا من أنفسهم من قتلهم، فحدثهم أمیر المؤمنین (علیه السلام) بحدیث مروقهم من الدین، عن النبی (صلى الله علیه وآله)، ثم قال: «وآیة ذلك: أن فیهم رجلاً أسود مخدج.. إلى إن قال: وكبر الناس، حین رأوه، واستبشروا، وذهب عنهم ما كانوا یجدون»(3).


كما أن جندب بن عبد الله الأزدی قال:


____________



(1) الخوارج فی العصر الأموی ص 67 عن صفین للمنقری ص 115.


(2) راجع: بهج الصباغة ج5 ص 266 وج3 ص 232 وتذكرة الخواص ص 307.


(3) البدایة والنهایة ج7 ص 294 وتاریخ بغداد ج14 ص 363 وبهج الصباغة ج7 ص187.













الصفحة 370


«شهدت مع علی الجمل وصفین، ولا أشك فی قتالهم، حتى نزلنا النهروان، فدخلنی شك، وقلت: قراؤنا وخیارنا!! نقتلهم؟! إن هذا الأمر عظیم».


وقد كان لهم دوی كدوی النحل من قراءة القرآن، وفیهم أصحاب الثفنات، وأصحاب البرانس.


ثم تذكر الروایة: أنه عاد إلى صوابه، وعرف الحق، بعد الإخبارت الغیبیة التی سمعها من أمیر المؤمنین (علیه السلام)، وقوله (علیه السلام) لمن أخبره بعبور «الخوارج» النهر: صدق الله ورسوله وكذبت، ما عبروا، ولن یعبروا..


ثم أخبرهم (علیه السلام) بأنهم سیقتلون الرجل الذی یذهب إلیهم ومعه المصحف، ویدعوهم إلى كتاب الله وسنة نبیه.. ثم حصول ذلك بالفعل(1).


وقد جرى مثل ذلك لأحد فرسان «الخوارج»، حین جاء إلى علی (علیه السلام) ولم یسلم علیه بإمرة المؤمنین؛ فسأله (علیه السلام) عن سبب ذلك، فأخبره بأنه قد برئ منه یوم صفین، وسماه مشركاً بسبب التحكیم، قال: «فأصبحت لا أدری إلى أین أصرف ولایتی. والله لأن أعرف هداك من ضلالتك أحب إلی من الدنیا وما فیها.» فقال له علی (علیه السلام): ثكلتك أمك، قف منی قریباً أریك علامات الهدى من علامات الضلالة.


____________



(1) مناقب الإمام علی بن أبی طالب لابن المغازلی ص 406 وخصائص أمیر المؤمنین للشریف المرتضى ص 28 و29 و كشف الغمة ج 1 ص 277 وراجع كنز العمال ج 11 ص 274 ـ 276 عن الطیالسی. ومجمع الزوائد ج 6 ص 241.













الصفحة 371


فوقف الرجل قریباً منه، فبینما هو كذلك إذ أقبل فارس یركض، حتى أتى علیاً (علیه السلام) فقال: یا أمیر المؤمنین، أبشر بالفتح، أقر الله عینك. قد ـ والله ـ قتل القوم أجمعون.


فقال له: من دون النهر، أو من خلفه؟!


قال: بل من دونه.


فقال: كذبت والذی فلق الحبة، وبرأ النسمة، لا یعبرون أبداً حتى یقتلوا.


فقال الرجل: فازددت فیه بصیرة.


فجاء آخر یركض على فرس له، فقال له مثل ذلك، فرد علیه أمیر المؤمنین (علیه السلام) مثل الذی رد على صاحبه.


قال الرجل الشّاك: وهممت أن أحمل على علی، فأفلق هامته بالسیف.


ثم جاء فارسان یركضان قد أعرقا فرسیهما، فقالا: اقر الله عینك یا أمیر المؤمنین، أبشر بالفتح، قد ـ والله ـ قتل القوم أجمعون.


فقال علی: أمن خلف النهر، أو من دونه؟!


قال: لا بل من خلفه، إنهم لما اقتحموا خیلهم النهروان، وضرب الماء لبات خیولهم رجعوا، فأصیبوا.


فقال: أمیر المؤمنین (علیه السلام) لهما: صدقتما.


فنزل الرجل عن فرسه، فأخذ بید أمیر المؤمنین وبرجله، فقبلهما.


فقال علی (علیه السلام): هذه لك آیة(1).


____________



(1) الكافی ج1 ص 280.













الصفحة 372


مكانة علی (علیه السلام):


أما أمیر المؤمنین (علیه الصلاة والسلام): فرغم أن بیعته قد جاءت فی أعقاب ثورة عارمة أودت بحیاة الخلیفة الثالث عثمان. ورغم أن الأخطبوط الأموی، الذی كان غیر مرتاح لوصوله (علیه السلام) إلى الحكم. كان یعمل بجدٍ وجهد بالغ على وضع العراقیل، وخلق المشاكل الكبیرة أمام مسیرة العدالة وحاكمیة خط الشریعة، بقیادته صلوات الله وسلامه علیه.


نعم ـ رغم ذلك ـ فإنه (علیه السلام) كان له من المكانة فیما بین المسلمین، ما لم یكن لكل أحد سواه آنئذ, وكانت الأمة لا تزال تسمع من، وعن النبی الأكرم (صلى الله علیه وآله)، الكثیر الكثیر فی حقه، وتأكید عظیم فضله ومنزلته، فهو مع الحق، والحق معه، وهو مع القرآن والقرآن معه، یدور معه حیث دار(1).


وفی نص آخر: عنه (صلى الله علیه وآله): علی مع الحق، والحق مع علی وهو مع القرآن والقرآن معه، ولن یفترقا حتى یردا علی الحوض (2).


وهو (علیه السلام) من النبی (صلى الله علیه وآله) بمنزلة هارون من موسى، وهو اخو النبی، ووصیه، ووزیره،وخلیفته، وولی كل مؤمن من بعده، إلى غیر ذلك مما لا یكاد یحصى لكثرته، وتنوع نصوصه.


____________



(1) كشف الغمة ج2 ص 35 وج1 ص 141 ـ 146 والجمل ص 36 وتاریخ بغداد ج14 ص 321 ومستدرك الحاكم ج3 ص 119 و124 وتلخیصه للذهبی بهامشه وراجع نزل الأبرار ص 56 وفی هامشه عن مجمع الزوائد 7/234 وعن كنوز الحقائق ص65 وكنز العمال 6/157 وشرح النهج للمعتزلی ج18 ص 72.


(2) ربیع الأبرار ج1 ص 828/829.













الصفحة 373


وذلك كله یجعل قتاله (علیه السلام) للخوارج، وحتى لعائشة، أم المؤمنین زوجة رسول الله، وبنت أبی بكر، ومدللة الخلیفة عمر بن الخطاب فضلاً عن حربه لطلحة والزبیر وغیرهما ـ یجعل حربه لهؤلاء دلیلاً صریحاً على تنكبهم جادة الحق، وعلى تعدیهم، وعلى خطئهم على الأقل فی مواقفهم.


وقد قال ابن قتیبة، بعد أن أشار إلى اختلاف أهل العراق فی صفین: «ثم قام عدی بن حاتم فقال: أیها الناس، لو غیر علی دعانا إلى قتال أهل الصلاة ما أجبناه. ولا وقع بأمر قط إلا ومعه من الله برهان، وفی یده من الله سبب»(1).


والذی كان یربط على قلوب الناس، ویأخذ بأعناقهم إلى التسلیم والإذعان هو ما یرونه من صدق إخباراته الغیبیة (علیه السلام) حسبما ذكرناه.


الصحابة مع علی (علیه السلام):


كما أن مما زاد فی ظهور فضل علی (علیه السلام)، وصوابیة مواقفه: أن عدد الصحابة الذین حضروا معه صفین كان ثمان مئة رجل، وقد جعلهم فرقة خاصة، وأمر علیهم قیس بن سعد (2).


وحین كلم ابن عباس «الخوارج» كان من جملة ما قاله لهم: «أتیتكم من عند المهاجرین والأنصار، ومن عند صهر رسول الله (صلى الله علیه وآله) علی بن أبی طالب (علیه السلام) وعلیهم نزل القرآن، وهو اعلم بتأویله منكم».


____________



(1) الإمامة والسیاسة ج1 ص121 وبهج الصباغة ج4 ص264 عنه.


(2) الإمامة والسیاسة ج1 ص49.













الصفحة 374


إلى أن تقول الروایة: انه رحمه الله قال لهم: «هاتوا ما نقمتم على صهر رسول الله (صلى الله علیه وآله)، والأنصار، وعلیهم نزل القرآن، ولیس منكم أحد منهم، وهم اعلم بتأویله منكم»(1).


وحسب نص آخر: «جئتكم من عند أمیر المؤمنین، ومن عند أصحاب رسول الله (صلى الله علیه وآله) ومن عند المهاجرین والأنصار. ولا أرى فیكم أحداً منهم لأبلغكم ما قالوا، أو أبلغهم ما تقولون»(2).


زاد فی نص آخر قوله: «أخبرونی ماذا نقمتم على أصحاب رسول الله وابن عمه الخ..» إلى أن قال: «فرجع منهم ألفان، وخرج سائرهم، فقتلوا على ضلالتهم، فقتلهم المهاجرون والأنصار»(3).


وحسب نص آخر: «أخبرونی ما تنقمون على ابن عم رسول الله (صلى الله علیه وآله)، وختنه، وأول من آمن به، وأصحاب رسول الله (صلى الله علیه وآله) معه»(4).


وفی روایة: «جئتكم من عند صهر رسول الله (صلى الله علیه وآله)، وابن عمه. وأعلمنا بربه، وسنة نبیه، من عند المهاجرین والأنصار»(5).


____________



(1) المناقب للخوارزمی ص 184 وتذكرة الخواص ص 99.


(2) ترجمة الإمام علی (علیه السلام) من تاریخ دمشق [بتحقیق المحمودی] ج3 ص 151.


(3) خصائص أمیر المؤمنین علی بن أبی طالب للنسائی ص 147 وفی هامشه عن: المناقب لابن شهر آشوب ج1 ص 267 وعن البدایة والنهایة ج7 ص 276 و281 وعن تاریخ الیعقوبی ج2 ص 167 ومستدرك الحاكم ج2 ص 150 وتلخیص المستدرك للذهبی [مطبوع بهامش المستدرك] ولم یذكر العبارة الأخیرة..


(4) مجمع الزوائد ج6 ص 240 عن الطبرانی وأحمد ببعضه ورجالهما رجال الصحیح.


(5) الكامل فی الأدب ج3 ص 211 وراجع: نور الأبصار ص 98 والفصول المهمة لابن الصباغ ص 84 وبهج الصباغة ج7 ص 171 والعقد الفرید ج3 ص 389.













الصفحة 375


وحین رجع أبو قتادة إلى المدینة، بعد فراغهم من أهل النهروان، كان معه ستون، أو سبعون من الأنصار، قال: «فبدأ بعائشة. قال أبو قتادة: فلما دخلت علیها قالت: ما وراءك؟


فأخبرتها: أنه لما تفرقت المحكّمة من عسكر المؤمنین لحقناهم، فقتلناهم.


فقالت: ما كان معك من الوفد غیرك؟!.


قلت: بلى، ستون، أو سبعون.


قالت: أفكلهم یقول مثل الذی تقول؟.


قلت: نعم.


قالت: قص علی القصة الخ..»(1).


قوة موقف علی (علیه السلام):


وعلى كل حال.. فان مكانة علی، والتفاف صحابة رسول الله (صلى الله علیه وآله) حوله، قد جعل أعداءه (علیه السلام) یواجهون صعوبات كبیرة فی إقناع الناس، بأن یدخلوا معهم فی حربهم الظالمة له، أو اقناعهم بمعذوریتهم فی موقفهم على الأقل.


ویزید هذا الأمر صعوبة: السلوك المتمیز لحكومة أمیر المؤمنین (علیه السلام) فی فترة ملیئة بالأحداث، زاخرة بالمشكلات، حیث أصبح واضحاً لدى العدو والصدیق: أنها المثال، الكامل لحكومة الحق والعدل، والخیر، وأنها لا مجال فیها للخدع والمساومات، ولا موضع


____________



(1) تاریخ بغداد ج1 ص 160 وتذكرة الخواص ص 104 و105 وبهج الصباغة ج7 ص 188 و120.













الصفحة 376


فیها للكید السیاسی. وذلك من شأنه أن یسّهل على الناس، فهم حقیقة موقف أمیر المؤمنیین (علیه السلام)، ومدى ما یتعرض له من تجنٍ وظلم من قبل أعدائه ومناوئیه، من «الخوارج» وغیرهم.


كما أن الناس قد رأوا بأم أعینهم: أنه (علیه السلام) لم یعط خصومه أی امتیاز، إلا وفق ما تقتضیه وتفرضه شرائع الدین وأحكامه.


ومما یشیر أیضاً: إلى فشل «الخوارج» فی إحداث خلل حقیقی فی نظرة الناس إلى علی (علیه السلام), وثقتهم بعلمه وصدقه: أن معقل بن قیس قال للخریت بن راشد حینما واقفه: «خبّرنی: لو أنك خرجت حاجاً، فقتلت شیئاً من الصید، مما قد نهى الله عز وجل عنه. ثم أتیت علیاً فاستفتیته فی ذلك، فأفتاك. هل كان عندك رضى؟!.


فقال: بلى، لعمری، إنه عندی لرضا. وقد قال النبی (صلى الله علیه وآله): أقضاكم علی.


فقال له معقل بن قیس: فكیف ترضى به فی علمه، ولا ترضى به فیما حكم؟!.


فقال: لأنی لا أعلم أحداً من الناس حكّم فی شیء هو له.


فقال: یا هذا، إن الذی لا تعلمه أنت هو أكثر من الذی علمته. إنا وجدنا علیاً یحكم فی جمیع ما اختلفنا فیه، وقد رضینا بحكمه، فاتق الله الخ»(1).


____________



(1) الفتوح لابن أعثم ج4 ص 77.














الصفحة 377


شك «الخوارج» فی صوابیة موقفهم:


بل إن «الخوارج» أنفسهم قد كانوا فی شك كبیر من صوابیة وصحة موقفهم منه صلوات الله وسلامه علیه. وقد أظهروا هذا الشك فی أكثر من مورد ومناسبة.


ومن أمثلة ذلك، ما یذكرونه من انه حینما طلب ابن ملجم من شبیب بن بجرة مساعدته فی قتل أمیر المؤمنین (علیه السلام) قال له شبیب ـ وهو من الخوارج ـ: «ویحك، لو كان غیر علی كان أهون علی. قد عرفنا بلاءه فی الإسلام، وسابقته مع النبی (صلى الله علیه وآله) , وما أجدنی انشرح لهذا الخ..»(1).


وقد حدثنا علی أمیر المؤمنین (علیه السلام) نفسه عن شكهم فی صحة ما هم علیه، حینما سمع (علیه السلام) رجلاً من «الخوارج» یتهجد ویقرأ فقال (علیه السلام): «نوم على یقین خیر من صلاة فی شك»(2).


كما أن فروة بن نوفل الأشجعی قد انصرف عن حرب علی (علیه السلام) فی النهروان، لأن الأمر كان ملتبساً علیه، كما یدل علیه قوله: «والله ما أدری على أی شیء نقاتل علیاً، إلا أن انصرف حتى تنفذ بصیرتی فی قتاله أو اتباعه»(3).


____________



(1) كشف الغمة ج2 ص 56/57 وراجع الفصول المهمة لابن الصباغ المالكی ص 117 وذخائر العقبى ص 114 والمناقب للخوارزمی ص 276 والریاض النضرة ج3 ص 235 والبدایة والنهایة ج7 ص 327.


(2) تذكرة الخواص ص 105 وبهج الصباغة ج7 ص 166 ونهج البلاغة قسم الحكم ج3 ص172.


(3) الكامل لابن الأثیر ج3 ص 346 وتاریخ الطبری ج4 ص 64 وبهج الصباغة ج7 ص 168 عنه.













الصفحة 378


ویكفی أن نذكر: أن فرقة «الخازمیة» من «الخوارج» ـ وهم أصحاب خازم بن علی ـ یتوقفون فی أمر علی (علیه السلام)، ولا یصرحون بالبراءة عنه، ویصرحون بذلك فی حق غیره(1).


مع أن أصل ظهور «الخوارج» كان هو الخلاف علیه صلوات الله وسلامه علیه!!.


هذا وقد «كان الخوارج أربعة آلاف علیهم عبد الله بن وهب الراسبی من الأزد ولیس براسب بن جرم بن دبان، ولیس فی العرب غیرهما. فلما نزل علی (علیه السلام): تفرقوا، فبقی منهم ألف وثمان ومئة. وقیل: ألف وخمسمائة، فقتلوا إلا نفراً یسیراً. وكان سبب تفرق «الخوارج» عنه: أنهم تنازعوا عند الاحاطة بهم فقالوا: أسرعوا الروحة إلى الجنة. فقال عبد الله بن وهب: ولعلها إلى النار.


فقال من فارقه: ترانا نقاتل مع رجل شاك»(2) ففارقوه.


وفی نص آخر: «أن عبد الله بن وهب الراسبی سمع رجلاً یقول: حبذا الروحة إلى الجنة فقال: ما أدری إلى الجنة أم إلى النار»(3)


____________



(1) الملل والنحل ج1 ص 131.


(2) معجم الأدباء ج5 ص 264 وراجع: التنبیه والإشراف ص 257 وشرح عقیدة التوحید ص 84 وبهج الصباغة ج7 ص 168 عن الخطیب، وراجع الكامل فی الأدب ج3 ص 187 وفیه أن الذین أصیبوا كانوا ألفین وثمان مئة.


(3) راجع: شرح نهج البلاغة للمعتزلی ج2 ص 272 و273 والعقود الفضیة ص 64 وأنساب الأشراف ج2 ص 271 [بتحقیق المحمودی] وشرح عقیدة التوحید ص 84، والكامل فی الأدب ج3 ص 187.













الصفحة 379


وقد حاول بعض «الخوارج» الاعتذار عن الراسبی، فقال: «وإنما قال ذلك، لأن الرجل أزرقی یحل الدم والمال بالذنب، ولأنه بدأ القتال» إلى أن قال: «كان أصحابنا والأزارقة جنداً واحداً، ولما ظهر القول بإباحة الدم، والمال، فارقهم أصحابنا، كابن وهب»(1).


ولكن من أین علم أن ذلك الرجل كان أزرقیا؟ ومن أین علم أن ذلك الرجل قد بدأ القتال؟!


وعلى كل حال، فقد قال ابن الطقطقا: «أما الخوارج فذهبت طائفة منهم قبل ان تنشب الحرب، وقالوا: والله ما ندری على أی شیء نقاتل علی بن أبی طالب، سنأخذ ناحیة حتى ننظر إلى ماذا یؤول الأمر»(2).


ومما یدل على أنهم كانوا شاكین فی قتال علی (علیه السلام)، قولهم: «قد جاء الآن ما لا شك فیه»، وذلك حینما تولى معاویة الحكم، كما سیأتی إن شاء الله تعالى.


كما أن أحدهم، وهو صخر بن عروة یقول: «إنی كرهت قتال علی بن أبی طالب رضی الله عنه؛ لسابقته وقرابته، فأما الآن فلا یسعنی إلا الخروج»(3).


وأیضاً.. فإن الذین اعتزلوا إخوانهم فی النهروان قد اعتذروا بأنه لیس لهم فی قتل علی (علیه السلام) حجة(4).


وقد قال رجل لأبی عبد الله (علیه السلام): «الخوارج شكاك؟


____________



(1) شرح عقیدة التوحید ص 84.


(2) الفخری فی الآداب السلطانیة ص95.


(3) الكامل للمبرد ج 3 ص 276.


(4) الأخبار الطوال ص 210 والكامل لابن الأثیر ج 3 ص 346.













الصفحة 380


فقال: نعم.


قال: فقال بعض أصحابه: كیف وهم یدعون إلى البراز.


قال: ذلك مما یجدون فی أنفسهم»(1).


إذن.. فالحقد هو السبب فی إقدامهم على الحرب، ولیس هو الاعتقاد والقناعة، وقد ذكرنا أنهم فی حربهم له (علیه السلام) انما انقادوا لهواهم فوقعوا فی اللبس والخطأ.


____________



(1) تهذیب الأحكام للطوسی ج 6 ص 145 وبهج الصباغة ج 7 ص 168 عنه والوسائل ج 11 ص 60.













الصفحة 381